الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أو المراد إن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله فوضع السبب موضع المسبب، ويعضده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «بعثني الله برسالاته وضقت بها ذرعًا فأوحى الله إليّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت» فإن قيل: اين ضمان العصمة وقد جرى عليه يوم أحد ما جرى؟ فالجواب أن الآية نزلت بعد يوم أحد. أو المراد أنه يعصمه من القتل وعليه أن يحتمل كل ما دون النفس والناس الكفار لقوله: {إنّ الله لا يهدي القوم الكافرين} أي لا يمكنهم مما يريدون.ثم لما أمره بتبليغ أي شيء كان طاب للسامع أو ثقل عليه أمره أن يقول لأهل الكتاب: {لستم على شيء} أي على دين يعتد به كما تقول: هذا ليس بشيء تريد تحقير شأنه، وباقي الآية مكرر للتأكيد. ومعنى {فلا تأس} لا تاسف ولاتحزن عليهم بسبب زيادة طغيانهم فإن وبال ذلك عائد عليهم، أو لا تأسف بسبب نزول اللعن والعذاب عليهم فإنهم من الكافرين المستحقين لذلك. يقال: آسى على مصيبته يأسى أسى أي حزن. ثم لما بين أن أهل التكاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا بيَّن أن هذا الحكم عام في الكل وأنه لا يحصل لأحد منقبة ولا سعادة إلاّ إذا آمن وعمل صالحًا، وذلك أن كمال القوة النظرية لا يحصل إلاّ بمعرفة المبدأ والمعاد- أعني الإيمان بالله واليوم الآخر- وكمال القوة العملية إنما يحصل بتعظيم المعبود والشفقة على المخلوق- أعني العمل الصالح- وغاية هذا الكمال الخلاص من الخوف مما يستقبل ومن الحزن على ما مضى من طيبات الدنيا لأنهم وجدوا أمورًا أعظم وأشرف. وقد تقدم تفسير الحزن على ما مضى من طيبات الدنيا لأنهم وجدوا أموراَ أعظم وأشرف. وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في سورة البقرة إلاّ أنه بقي هاهنا بحث لفظيّ وهو أن قوله: {والصابئون} عطف على ماذا؟ فقال الكوفيون: إنه معطوف على محل {الذين} لأن اسم «إن» إذا كان مبنيًا جاز العطف على محله، وإن كان قبل ذكر الخبر فيجوز: إنك وزيد ذاهبان. وإن لم يجز إن زيدًا وعمرو قائمان. وذهب البصريون إلى عدم جواز ذلك مطلقًا لأنه يؤدي إلى إعمال «إن» وإعمال معنى الابتداء معًا في «قائمان» فيجتمع على المرفوع الواحد رافعان مختلفان وإنه محال. فإذن {الصابئون} مرفوع بالابتداء على نية التأخير كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارة حكمهم كذا والصابئون كذلك، فتكون هذه جملة معطوفة على جملة قوله: {إن الذين آمنوا} إلى آخره ولا محل لها كما لا محل للتي عطفت عليها، وفائدة هذا التقديم التنبيه على أن التوبة مقبولة ألبتة، وذلك أن الصابئين بين هؤلاء المعدودين ضلال لأنهم صبؤا عن الأديان كلها أي خرجوا فكأنه قال: كل هؤلاء الفرق إذا أتوا بالإيمان والعمل الصالح قبلت توبتهم حتى الصابئون ولو قيل: والصابئين لم يكن من التقديم في شيء لأنه ثابت في مركزه الأصلي وإنما تطلب فائدة التقديم للمزال عن موضعه والراجع إلى اسم «إن» محذوف والتقدير من آمن منهم كما في البقرة والله أعلم. اهـ.
.من لطائف وفوائد المفسرين: .من لطائف القشيري في الآية: قال عليه الرحمة:{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)}.بَيَّنَ أنهم- وإنْ تجنَّسَتْ أحوالهم- فبعدما تجمعهم أصولُ التوحيد فلهم الأمانُ من الوعيد، والفوزُ بالمزيد. اهـ..من فوائد الفخر الرازي: إنه تعالى قال في أول الآية {إِنَّ الذين ءامَنُواْ} ثم قال في آخر الآية {مَنْ ءامَنَ بالله} وفي هذا التكرير فائدتان، الأولى: أن المنافقين كانوا يزعمون أنهم مؤمنون، فالفائدة في هذا التكرير إخراجهم عن وعد عدم الخوف وعدم الحزن.الفائدة الثانية: أنه تعالى أطلق لفظ الإيمان، والإيمان يدخل تحته أقسام، وأشرفها الإيمان بالله واليوم الآخر، فكانت الفائدة في الإعادة التنبيه على أن هذين القسمين أشرف أقسام الإيمان، وقد ذكرنا وجوهًا كثيرة في قوله: {يا أيها الذين آمنوا} وكلها صالحة لهذا الموضع. اهـ.الفائدة الثالثة: الراجع إلى اسم {إن} محذوف، والتقدير: من آمن منهم، إلا أنه حسن الحذف لكونه معلومًا، والله أعلم. اهـ..من فوائد الألوسي في الآية: قال رحمه الله:{إِنَّ الذين ءامَنُواْ} كلام مستأنف مسوق للترغيب في الإيمان والعمل الصالح.وقد تقدم في آية البقرة (62) الاختلاف في المراد من الذين آمنوا والمروي عن الثوري أنهم الذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون وهو الذي اختاره الزجاج، واختار القاضي أن المراد بهم المتدينون بدين محمد صلى الله عليه وسلم مخلصين كانوا أو منافقين، وقيل: غير ذلك {والذين هَادُواْ} أي دخلوا في اليهودية {والصائبون}، وهم كما قال حسن جلبي وغيره: قوم خرجوا عن دين اليهود والنصارى وعبدوا الملائكة، وقد تقدم الكلام على ذلك، وفي «حسن المحاضرة في أخبار مصر القاهرة» للجلال السيوطي ما لفظه: ذكر أئمة التاريخ أن آدم عليه الصلاة والسلام أوصى لابنه شيث وكان فيه وفي بنيه النبوة والدين وأنزل عليه تسع وعشرون صحيفة وأنه جاء إلى أرض مصر، وكانت تدعى باب لون فنزلها هو وأولاد أخيه، فسكن شيث فوق الجبل، وسكن أولاد قابيل أسفل الوادي، واستخلف شيث ابنه أنوش واستخلف أنوش ابنه قَيْنَان.واستخلف قَيْنَان ابنه مهليائيل، واستخلف مهليائيل ابنه يرد، ودفع الوصية إليه وعلمه جميع العلوم وأخبره بما يحدث في العالم، ونظر في النجوم وفي الكتاب الذي أنزل على آدم عليه الصلاة والسلام، وولد ليرد أخنوخ وهو إدريس عليه الصلاة والسلام ويقال له: هرمس، وكان الملك في ذلك الوقت محويل بن أخنوخ بن قابيل، وتنبأ إدريس عليه الصلاة والسلام وهو ابن أربعين سنة، وأراد به الملك سوءًا فعصمه الله تعالى وأنزل عليه ثلاثين صحيفة، ودفع إليه أبوه وصية جده والعلوم التي عنده وكان قد ولد بمصر وخرج منها، وطاف الأرض كلها «ورجع فدعا الخلق إلى الله تعالى فأجابوه حتى عمت ملته الأرض»، وكانت ملته الصابئة، وهي توحيد الله تعالى والطهارة والصلاة والصوم وغير ذلك من رسوم التعبدات، وكان في رحلته إلى المشرق قد أطاعه جميع ملوكها، وابتنى مائة وأربعين مدينة أصغرها الرها، ثم عاد إلى مصر وأطاعه ملكها وآمن به إلى آخر ما قاله ونقله عن التيفاشي، ويفهم منه قول في الصابئة غير الأقوال المتقدمة.وفي «شذرات الذهب» لعبد الحي بن أحمد بن العماد الحنبلي في ترجمة أبي إسحاق الصابىء ما نصه: «والصابىء بهمز آخره، قيل: نسبة إلى صابىء بن متوشلخ بن إدريس عليه الصلاة والسلام، وكان على الحنيفية الأولى، وقيل: الصابىء بن ماوى، وكان في عصره الخليل عليه الصلاة والسلام، وقيل: الصابىء عند العرب من خرج عن دين قومه». انتهى.{اليهود والنصارى} جمع نصران، وقد مر تفصيله، ورفع {الصابئون} على الابتداء وخبره محذوف لدلالة خبر إن عليه، والنية فيه التأخير عما في خبر {إن}، والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كيت وكيت والصابئون كذلك بناءًا على أن المحذوف في إن زيدًا، وعمرو قائم خبر الثاني لا الأول كما هو مذهب بعض النحاة واستدل عليه بقول صابىء بن الحرث البرجمي:فإن قوله: «لغريب» خبر إن، ولذا دخلت عليه اللام لأنها تدخل على خبر «إن» لا على خبر المبتدأ إلا شذوذًا، وقيل: إن «غريب» فيه خبر عن الإسمين جميعًا لأن فعيلًا يستوي فيه الواحد وغيره نحو {وَالْمَلَئِكَةُ بَعْدَ ذلك ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، ورده الخلخالي بأنه لم يرد للإثنين، وإن ورد للجمع، وأجاب عنه ابن هشام بأنهم قالوا في قوله تعالى: {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ} [ق: 17]: إن المراد قعيدان، وهذا يدل على إطلاقه على الإثنين أيضًا، فالصواب منع هذا الوجه بأنه يلزم عليه توارد عاملين على معمول واحد، ومثله لا يصح على الأصح خلافًا للكوفيين، وبقول بشر بن أبي حازم: فإن قوله: «بغاة ما بقينا» خبر إن ولو كان خبر أنتم لقال: ما بقيتم، وبغاة جمع باغ بمعنى طالب، وقيل: إنه جمع باغي من البغي والتعدي وأنتم بغاة جملة معترضة لأنه لا يقول في قومه إنهم بغاة وما بقينا في شقاق خبر إن، وحينئذ لا يصلح البيت شاهدًا لما ذكر لأن ضمير المتكلم مع الغير في محله، وإنما وسطت الجملة هنا بين إن وخبرها مع اعتبار نية التأخير ليسلم الكلام عن الفصل بين الاسم والخبر، وليعلم أن الخبر ماذا دلالة كما قيل على أن الصابئين مع ظهور ضلالهم وزيغهم عن الأديان كلها حيث قبلت توبتهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح فغيرهم أولى بذلك، ومن هنا قيل: إن الجملة كاعتراض دل به على ما ذكر، وإنما لم تجعل اعتراضًا حقيقة لأنها معطوفة على جملة {إِنَّ الذين} وخبرها، وأورد عليه ما قاله ابن هشام من أن فيه تقديم الجملة المعطوفة على بعض الجملة المعطوف عليها، وإنما يتقدم المعطوف على المعطوف عليه في الشعر، فكذا ينبغي أن يكون تقديمه على بعض المعطوف عليه بل هو أولى منه بالمنع، وأما ما أجاب به عنه بأن الواو واو الاستئناف التي تدخل على الجمل المعترضة، كقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار} [البقرة: 24] الخ، وهذه الجملة معترضة لا معطوفة، فلا يتمشى فيما نحن فيه لأنه يفوّت نكتة التقديم من تأخير التي أشير إليها لأنها إذا كانت معترضة لا تكون مقدمة من تأخير، وبعض المحققين صرف الخبر المذكور إلى قوله تعالى: {والصابئون} وجعل خبر {إن} محذوفًا، وهو القول الآخر للنحاة في مثل هذا التركيب، وهو موافق للاستعمال أيضًا كما في قوله: فإن قوله: راض خبر أنت وخبر نحن محذوف، ورجح بأن الإلحاق بالأقرب أقرب، وبأنه خال عما يلزم على التوجيه الأول، نعم غاية ما يرد عليه أن الأكثر الحذف من الثاني لدلالة الأول، وعكسه قليل لكنه جائز، وعورض بأن الكلام فيما نحن فيه مسوق لبيان حال أهل الكتاب، فصرف الخبر إليهم أولى، وفي توسيط بيان حال الصابئين ما علمت من التأكيد، وأيضًا في صرف الخبر إلى الثاني فصل للنصارى عن اليهود وتفرقة بين أهل الكتاب لأنه حينئذ عطف على قوله سبحانه: {والصابئون} قطعًا، نعم لو صح أن المنافقين واليهود أوغل المعدودين في الضلال، والصابئين والنصارى أسهل حسن تعاطفهما وجعل المذكور خبرًا عنهما، وترك كلمة التحقيق المذكورة في الأولين دليلًا على هذا المعنى، وقيل: إن {الصابئون} عطف على محل {إن} واسمها، وقد أجازه بعضهم مطلقًا، وبعضهم منعه مطلقًا، وفصل آخرون فقالوا: يمتنع قبل مضي الخبر ويجوز بعده.وذهب الفراء إلى أنه إن خفى إعراب الاسم جاز لزوال الكراهة اللفظية نحو: إنك وزيد ذاهبان وإلا امتنع، والمانع عند الجمهور لزوم توارد عاملين، وهما «إن» والإبتداء أو المبتدأ على معمول واحد وهو الخبر، ولهذا ضعفوا هذا القول في الآية، وبنوا على مذهب الكوفيين، وكون خبر المعطوف فيها محذوفًا وحينئذ لا يلزم التوارد ليس بشيء لأن الجملة حينئذ تكون معطوفة على الجملة، ولم يكن ذلك من العطف على المحل في شيء، ومن قال: إن خبر {إن} مرفوع بما كان مرفوعًا به قبل دخولها لم يلزم عليه حديث التوارد.ونقل عن الكسائي إن العطف على الضمير في {هَادُواْ} وخطأه الزجاج بأنه لا يعطف على الضمير المرفوع المتصل من غير فصل، وبأنه لو عطف على الفاعل لكان التقدير وهاد الصابئون فيقتضي أنهم هود وليس كذلك ولعل الكسائي يرى صحة العطف من غير فاصل فلا يرد عليه الاعتراض الأول، وقيل: {إن} بمعنى نعم الجوابية ولا عمل لها حينئذ، فما بعدها مرفوع المحل على الابتداء والمرفوع معطوف عليه، وضعفه أبو حيان بأن ثبوت {إن} بمعنى نعم فيه خلاف بين النحويين.وعلى تقدير ثبوته فيحتاج إلى شيء يتقدمها تكون تصديقًا له ولا يجيىء أول الكلام، والجواب بأن ثمة سؤالًا مقدرًا بعيد ركيك، وقيل: إن الصابئين عطف على الصلة بحذف الصدر أي الذين هم الصابئون، ولا يخفى بعده، وإن عُدّ أحسن الوجوه، وقيل: إنه منصوب بفتحة مقدرة على الواو والعطف حينئذ مما لا خفاء فيه، واعترض بأن لغة بلحارث وغيرهم الذين جعلوا المثنى دائمًا بالألف نحو رأيت الزيدان ومررت بالزيدان وأعربوه بحركات مقدرة، إنما هي في المثنى خاصة، ولم ينقل نحو ذلك عنهم في الجمع خلافًا لما تقتضيه عبارة أبي البقاء، والمسألة مما لا يجري فيها القياس فلا ينبغي تخريج القرآن العظيم على ذلك، وقرأ أبي وكذا ابن كثير والصابئين وهو الظاهر والصابيون بقلب الهمزة ياءًا على خلاف القياس والصابون بحذفها من صبا بإبدال الهمزة ألفًا فهو كرامون من رمى.
|